الدعوة للجميع
هناك دعاة متميزون حباهم الله بمواهب كثيرة وملكات متعددة، وأمثال هؤلاء يحملون من أعباء الدعوة وأعمالها أكثر من غيرهم، ولكن الخطأ يقع عندما تستند إليهم معظم المهمّات وتحال عليهم أكثر الواجبات دون مراعاة لقدراتهم وطاقاتهم ونفسياتهم، ودون ملاحظة جانب التخصص والإتقان؛ إذ قد يكون الواحد من هؤلاء متعدد المواهب في الاتصال بالمدعوين، وتأليف قلوبهم، وكسب ثقتهم والتأثير في سلوكياتهم، وهو في هذا مبدع ظاهر التميز، لكنه ليس بالضرورة جيداً في ميدان الكتابة أو التخطيط أو الخطابة، فتكليفه حينئذ وضع للأمر في غير موضعه وإسناد له لغير أهله، وفيه إرهاق قد يفتر معه حماس الداعية أو ينقطع عمله، كما أنه يلغي وجود الدعاة الآخرين من حوله فيعيشون في فراغ قاتل وتضعف ثقتهم بأنفسهم.
وهناك في موكب الدعوة وميادينها الفسيحة أصحاب نوايا مخلصة، وحماسة صادقة، يحبون فعل الخير، ويشتاقون إلى خدمة الدعوة، ولكن إمكاناتهم قليلة، ومواهبهم معدودة، ويقع الخطأ عندما يتم تجاهل هؤلاء ويقال: إنهم لا يصلحون لشيء! وبالتالي لا يتم استيعابهم فضلاً عن استثمارهم وتطويرهم، وتخسر الدعوة حينئذ في هذا الميدان وذاك.
إن مبدأ التخصص لا بد أن يُحترم في العمل الدعوي، فلا مجال للمبالغة في تقدير الموهوبين، واعتبار أنهم صالحون لكل عمل، وناجحون في كل مهمة، وأن الواحد يمكن أن يكون المربي الناجح، والسياسي المحنّك، والاجتماعي المحبوب، والكاتب الموهوب، والخطيب المفوّه.
وهذا لو فرض مكانه من حيث المواهب، فلا يمكن من حيث الطاقة والإمكانية الواقعية، إضافة إلى أنه لا ينبغي إهمال الميول النفسية للأفراد، حيث يكون النفور وعدم التفاعل مع أي تكليف لا يتوافق مع تلك الميول، وعندما نراعي التخصص والرغبة؛ فإن ذلك يؤدي إلى نمو القدرات والمهارات لدى الداعية في هذا الجانب فيكون هو الذي يسد الثغرة في الجانب الاقتصادي مثلاً وغيره يكون في الجانب التربوي.
وهكذا تنمو الكوادر وتتكامل الجوانب، وأما ذوو الطاقات المحدودة فلا بد من تشجيعهم لتعظم ثقتهم بأنفسهم، ومن ناحية أخرى يكلفون من الأعمال ما يطيقون وليس هناك طاقة لا حاجة لها: فالخطّاط يفيد الدعوة بخطه، وكذا المهندس بهندسته، والشاعر بقصيدته، والكاتب بمقالته، وهناك أعمال مساعدة كثيرة لا تحتاج إلى ذهن وقّاد، أو لسان بليغ أو غير ذلك، بل هي مهام تنفيذية محدودة، تحتاج إلى جهد ووقت يمكن أن يرهق ويعرقل أصحاب المسؤوليات الكبيرة، وقيام أمثال أولئك بهذه الأعمال يتيح التفرغ لمن عندهم مهام ومواهب أكبر وأكثر.
ولذا فإن الجامعين لطاقات ومواهب عديدة يتميزون بإحداها أكثر، ولذا فنحن نقول: سماحة أبي بكر، وعدالة عمر، وحياء عثمان، وشجاعة علي، وفقه ابن مسعود، وتفسير ابن عباس، ورواية أبي هريرة وهكذا.
ومن هنا ندرك فقه الداعية الإمام مالك عندما كتب له أحدهم يحضه على العمل والانفراد فرد عليه: “إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد.
فنشر العلم من أفضل أعمال البر وقد رضيت بما فتح لي فيه وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر”.
إذاً.. فالدعوة للجميع.
المصدر: المختار الإسلامي