محمد شعبان أيوب
إن الحسبة نظام إسلامي فريد لم تأت به حضارة من الحضارات قبل الإسلام، وتعني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي وظيفة تعطى لشخص أو هيئة؛ لتقويم الاعوجاج، وتغيير المنكر، والسعي في إصلاح المجتمع وفق ضوابط الشرع الحكيم.
ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمورد من الموارد، ولا مجال من المجالات، بل هو شامل لجميع ما جاء به الإسلام من مفاهيم وقيم، فهو شامل للتصورات والمبادئ التي تقوم على أساسها العقيدة الإسلامية، وشامل للموازين والقيم الإسلامية التي تحكم العلاقات الإنسانية، وشامل للشرائع والقوانين، وللأوضاع والتقاليد. وبعبارة أخرى هو دعوة إلى الإسلام عقيدة ومنهجًا وسلوكًا؛ بتحويل الشعور الباطني بالعقيدة إلى حركة سلوكية واقعية، وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة متفاعلة ومتصلة مع الأوامر والنواهي الإسلامية.
وأول من احتسب في تاريخ الحضارة الإسلامية، هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّ على صُبْرة (كومة) طعامٍ، فأدخل يده فيها, فنالت أصابعه بللاً، فقال: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله, قال: أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ؛ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»(1).
وكان أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- يقوم بوظيفة المحتسب بنفسه، فكان يتولّى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويُوَجِّه الناس إلى الحقّ والصراط السوي، ويمنع الغشَّ، ويحذر منه، وكان -رضي الله عنه- يمرّ في السوق ومعه الدّرّة (العصا)، فيزجر بها غلاة الأسعار والغشاشين(2).
وظل نظام المراقبة والحسبة موجودًا طوال العهد الراشدي والأموي، وإن لم يحمل صاحبه لقب المحتسب؛ إذ عُرِف هذا المسمَّى في العصر العباسي, وقد عُيِّن زياد بن أبيه عاملاً على سوق البصرة في خلافة معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه-(3).
ومنذ العصر العباسي بدأت وظيفة المحتسب تأخذ شكلاً مغايرًا، فأصبحت معروفة بين الناس منذ الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور؛ وتيسيرًا على المحتسبين، وتنظيمًا للمجتمع، نقل المنصور أسواق بغداد والمدينة الشرقية إلى مناطق أخرى متخصصة، وبعيدة عن مركز المَدِينةِ ودواوينها، فنقل الأسواق إلى باب الكَرْخ وباب الشعير، وعَيَّن لها محتسبِينَ؛ يُراقبون شئونها، ويضبطون مخالفاتها(4).
وقد تطورت وظيفة المحتسب في ظلّ الخلافة العباسية من مراقبة المكاييل والموازين، ومنع الاحتكار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى الإشراف على نظافة الأسواق والمساجد، ومراقبة الموظفين للتقيد بالأعمال، حتى مراقبة المؤذّن للتّقَيّد بأوقات الصلاة.
ومن ثَمّ بحثَ ولاة الأمور عن المحتسبين أصحاب المهارة والعلم والحزم، فقد حُكي: “أن أتابك طغتكين سلطان دمشق زمن السلاجقة طلب له محتسبًا، فذُكِرَ له رجلٌ من أهل العلم، فأمر بإحضاره، فلمّا بصُر به قال: إنّي ولّيتك أمر الحسبة على الناس؛ بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. قال: إن كان الأمر كذلك، فقُم عن هذه الطَّرَّاحة، وارفع هذا المسند؛ فإنّهما حريرٌ، واخلع هذا الخاتم، فإنّه ذهبٌ، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الذهب والحرير: «إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، حِلٌّ لإِنَاثِهَا»(5), قال: فنهض السُّلطان عن طَرَّاحته، وأمر برفع مسنده، وخلع الخاتم من أصبعه، وقال: قد ضممتُ إليك النظر في أمور الشُّرطة، فما رأى النَّاس محتسبًا أهيب منه”(6).
واهتم المحتسبون في الحضارة الإسلامية بكل ما ينفع المسلمين، وأُلِّفت المصنفات العديدة في ذلك، ولكن ما يلفت النظر، وما يُدلل على رُقي وظيفة المحتسب في حضارتنا، اهتمامها ببعض التفاصيل التي قد لا يتنبه إليها أحدٌ، فهذا ضياء الدين بن الأخوة ت (729هـ) يذكر مجموعة من الإرشادات العامة التي يجب للمحتسب أن يُطَبِّقها، ولا نجد أحدًا قد سبقه إلى هذا المعنى، ففي حديثه في الحسبة على الفرَّانين والخبازين يقول: “ينبغي أن يأمرهم المحتسب برفع سقائف أفرانهم، ويجعل في سقوفها منافس واسعةً للدُّخان، ويأمرهم بكنس بيت النَّار في كلّ تعميرةٍ… وغسل المعاجن، وتنظيفها، ويتّخذ لها أبراشًا (حصيرًا)، كلُّ برشٍ عليه عودان مصلّبان لكلّ معجنةٍ، ولا يعجن العجّان بقدميه، ولا بركبتيه، ولا بمرفقيه؛ لأنّ في ذلك مهانةً للطعام، وربّما قطّر في العجين شيءٌ من عرق إبطيه أو بدنه، ولا يعجن إلاّ وعليه مِلْعَبةٌ (ثوب) ضيّقة الكمّين، ويكون مُلثّمًا أيضًا؛ لأنّه ربّما عطس، أو تكلّم فقطر شيءٌ من بصاقه، أو مخاطه في العجين، ويشدُّ على جبينه عصابةً بيضاء؛ لئلاّ يعرق فيقطر منه شيءٌ، ويحلق شعر ذراعيه؛ لئلاّ يسقط منه شيءٌ في العجين، وإذا عجن في النّهار فليكن عنده إنسانٌ على يده مذبّةٌ يطرد عنه الذُّباب”(7).
وعرفت بلاد المغرب والأندلس وظيفة المحتسب منذ فترة مبكرة، ومن العجيب أن المحتسب كان يستعين بالصبيان والفتيات؛ ليُعينوه على معرفة التاجر الغاشّ، فكان “المحتسبُ يدسُّ عليه –أي: على التاجر- صبيًّا أو جارية يبتاع أحدُهما منه، ثم يختبرُ الوزنَ المحتسبُ، فإن وجد نقصًا، قاسَ على ذلك حاله مع الناس -فلا تسأل عمّا يلقى-, وإن كثر ذلك منه ولم يَتُبْ بعد الضرب والتجريس في الأسواق، نُفي من البلد, ولهم –أي: المحتسبون- في أوضاع الاحتساب قوانين يتداولونها ويتدارسونها كما تتدارس أحكام الفقه؛ لأنها عندهم تدخل في جميع المبتاعات، وتتفرع إلى ما يطول ذكره”(8).
وقد كانت وظيفة المحتسب في العصر المملوكي على جانب كبير من الأهمية، خاصة في أوقات البلاء والمرض والأوبئة، فقد ذكر المقريزي: “أن القاهرة والأرياف قد تَعَرَّضت لوباء قاتل في عام (822هـ)، فـنُودِيَ في الناس من قِبَلِ المحتسب: أن يصوموا ثلاثة أيام آخرها يوم الخميس.. ليَخْرجوا مع السلطان، فيدعوا الله بالصحراء في رفع الوباء، ثم أُعيد النداء… أن يصوموا من الغد، فتناقص عدد الأموات فيه…”(9).
بل من مهام المحتسب الأخرى: أنه كان يمرّ بالشوارع والطرقات في وقت الحرب والنفير، فينادي في الناس بالخروج مع السلطان أو الأمراء لملاقاة الأعداء، فقد تحدّث المؤرخ ابن العديم في “بُغية الطلب” عن كيفية النفير في مدينة طَرَسُوس شمال الشام، فمما قاله عن وظيفة المحتسب في هذه الأوقات: “يطوف المحتسب ورجالته الشوارع كلها، فإن كان ذلك نهارًا انضاف إلى رجالته عدد كثير من الصبيان، وساعدوهم على النداء بالنفير، وربما احتاجوا إلى حشد الناس لشدَّة الأمر وصعوبة الحال، فأمرَ أهلَ الأسواق بالنفير، وحضَّهم على المسير، في أثر الأمير أين أخذ، وكيف سار..”(10).
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي.
_______
(1) مسلم, كتاب الإيمان، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من غشنا فليس منا» (102).
(2) الطبري, تاريخ الأمم والملوك (2/ 578).
(3) الصلابي, الدولة الأموية (1/ 315).
(4) انظر: الطبري, تاريخ الأمم والملوك (4/ 480).
(5) مشكل الآثار للطحاوي (4209).
(6) ابن الأخوة, نهاية الرتبة في طلب الحسبة (ص:78).
(7) ابن الأخوة, معالم القربة في طلب الحسبة (ص:150).
(8) المقري, نفح الطيب (1/ 219).
(9) المقريزي, السلوك (6/ 495-496).
(10) ابن العديم, بُغية الطلب في تاريخ حلب (1/ 84).