قولي في الاختلاط
ما أريد قوله: إن الخلط ما بين الرجل والمرأة في الوظائف، وفي التعليم، والنشاطات، ليكونا زميلين وصديقين كارثة من كل الزوايا، وما كان كارثة فهو مكروه يجب منعه.
وأريد أن أقول: إن الشريعة تحرم هذا الخلط، ولا تصدقوا من يقول غير ذلك، لو كان معممًا من جيل قديم، أو متبدلاً -يلبس البدلة- ومتطوراً من جيل الجدد.
ولي همّ أن أفصح قائلاً: إن الاختلاط يسري ويجري، كما يسرى النار في الهشيم، ويجري الماء من أعلى إلى أسفل؛ لأن العزيمة قد انعقدت على تحقيق هذا الحكم الأوروبي الأمريكي، زيادة في التقرب والمودة، والتزين والاسترضاء، ولعله التراخي والخور المانع من الامتناع والمدافعة، أو ربما إعجاباً وترحيباً بالخطوة التقدمية، العصرية، الحضارية!!
تقولون: أطلقت نتائج وأحكامًا قبل أن تستدل لها، وهذا يخالف منهج العلم والإثبات، والدعاوى تحتاج إلى بينات.
وأقول: نعم بدأت بالنتائج ضجرًا وضيقًا، ما عدت أحتمل أن أقول لمن أحاط به النار: انظر فإنها نار! أتعلم ما النار؟!
إنها جزئيات حارقة، كل جزئي يتحرك بسرعة وعنف، محدثاً طاقة حرارية حارقة، فإذا ما مس جلدك أحدث فيه تغييراً كيمائياً وحيوياً بتلف الأنسجة السطحية، وقد يتعمق حتى يصل إلى الكتلة اللحمية تحت الجلد، فيتفاعل معها حتى تنضج.
وعلامة ذلك: أنك تشم رائحة شواء تنبعث من جسمك ثم بعده يسود فتختلف الرائحة، فتعلم أن اللحم قد فسد، وبدأ في الجفاف، حتى يستحيل رماداً، فهذه هي الطبيعة النارية، وهذا فعلها، ولا علاج لآثارها، خصوصاً في درجات الحروق المتقدمة.
وبعد أن عرفت هذه المقدمة المهمة الضرورية: إن شئت زدتك مقدمات، هي أكثر تفصيلاً، وبياناً، وإيضاحاً حتى للأعمى، والأصم، والجاهل، بل الأعجمي الذي لا يفهم اللسان العربي.
وإن شئت ففي فرصة أخرى: عندي من العلم ما لم يأتك، ولم يسمعه أذنك.
فهذا المسكين إن كان في حاجة إلى كل هذه المقدمات عن فاعلية النار: فحري به أن يحترق، فلا يبقى منه جزء، بل من البلية والنكد على جزئيات النار أن تأكل من جزئيات أحمق أخرق لا يدري ما النار؟ فلربما أفسدت طبيعتها، وسلبت خاصيتها.
ثمة أمور الاستدلال لها نكد ما بعده نكد، ليس لغياب الحجة؛ بل لأنها كالشمس والقمر، والليل والنهار، والسماء والأرض، والصدق والكذب، والأمانة والخيانة، والإيمان والكفر، والزواج والزنا.. أمور واضحة بدهية، وما كان الإنسان إنساناً إلا بمعرفتها بدون مقدمات، وإلا فمشكوك في إنسانيته، وقد ذكروا أناساً نشأوا وعاشوا بين الوحوش في الأدغال، فلم تمنعهم النشأة والبيئة من تحصيل العلوم والمعارف الضرورية، فما بالك بمن نشأ بين البشر؟
وأنا أزعم أن من هذه البدهيات والمعارف الضرورية الأولية التي لا تحتاج إلى أدلة، ولا بحث في براهين: أن الاختلاط كارثة على الأخلاق، وخطوة مشينة، وظاهرة مرضية، وخطأ فاحش، وفي الشريعة: معصية، وخطيئة، وجريمة، وعدوان، وإفساد للرجل والمرأة.
ضرورة هذا العلم كضرورة معرفة: أن النار حارقة، والماء راوية، والطعام مشبع، والواحد نصف الاثنين، والكل أكبر من الجزء، وأن الولد لا يأتي إلا من طريق النكاح.
معارف ضرورية، فطرية، بدهية، وكيف لا تكون منها وكل جنس يشعر بانجذاب قوي لا إرادي تجاه الآخر، ومن كان يحتاج إلى استدلال فما عليه إلا أن يجلس إلى جنب أنثى أجنبية يافعة -أو تجلس إلى جنب رجل- فلينظر ثَمَّ إذن: ما شعوره؟ وأين يكون عقله؟ وفي أي شيء يتسلط نظره؟ وكيف تكون أمانيه ورغائبه؟!
لا زلت في ضجر، وقد زدت حيرة؛ لأني أعلم أن ثمة أناساً لا يرضيهم كل ما سبق، ولا يدخلهم في مجموعة أهل الإدراك، والداهية الدهماء، والبلية الصلعاء: أنهم آباء، وأمهات، وإخوة.. بل وأزواج، يعتقدون أن البراهين الفارطة، والبدهيات الفائتة أوهاماً نسجتها خيالات مريضة، ونفوس شهوانية، وأفكار متخلفة رجعية، لا ترى المرأة إلا محل الوطر، فتضعها في زاوية الفتنة، ولا ترى فيها إلا جسداً يشتهى، لا عقل له، ولا روح، فهؤلاء هم سبب تخلف الأمة، وانسداد أبواب التقدم والتحضر؟!!
كذا يقولون، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ومن ورائهم فئة تحب الفساد، والله لا يحب الفساد، ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، والله يريد أن يطهر الذين آمنوا، ويتوب عليهم..
يعرفون نتائج الخلط، ويريدونه ويحسنونه، ويسوقون الناس سوقاً بالأمر النافذ، وبالحكم المتسلط، ويلقون نجاحاً تلو النجاح.. ولم لا ينجحون وهم متمركزون، متسلطون، نافذون؟ وهم في فلك قوى مهيمنة، تفرض إرادتها، وأهدافها يسبحون؟ ووسائل الإعلام من تحت أمرهم تصدر؟
لم لا ينجحون وفي الناس شهوانيون دهماء، وفي الأمة مضلون ومتراخون وساكتون؟
في الجاهلية كان الناس يستبيحون محرمات كثيرة، فجاء الإسلام فتدرج في التشريع؛ تحريماً وفرضاً، فنشأت الأحكام مرتبة الأهم فالمهم، بدءا بالتوحيد، والإيمان، والإسلام، ثم عرج على العادات والأخلاق، ثم المعاملات، ثم العلاقات.. وهكذا مع تداخل بينها.
فكان مما في تلك المرحلة قبل التشريع، ما ورد من آثار ظاهرها تسوغ الخلط بين الرجال والنساء، في الضيافة والزواج ونحوها، كان ذلك قبل الحجاب، ثم جاء الأمر بالحجاب، ونزل القضاء بقرار النساء في البيوت، وبذلك حكم الشرع بالفصل ومنع من الخلط؛ إذ الخلط -بالمفهوم الذي صدرنا به المقال- يتناقض مع الحجاب والقرار، فمنعت ظواهر التبرج والسفور، ودخول الرجال على النساء، والخلط بينهما، فجاء المفتون بجمع الذكر والأنثى، فصار يستدل على هذا الجمع بالأحوال قبل الأمر بالحجاب، إما جهلاً بتدرج الأحكام، أو ميلاً إلى الفتنة.
وبعد الحجاب والقرار في البيت كانت المرأة معرضة للحاجات والضرورات، فتخرج لتبتاع وتبيع، وتسأل وتتعلم، وتشارك في الجهاد حين الحاجة إليها.. وكل ذلك مع الحشمة، وبقدر الضرورة، لا تزيد على ذلك، لتعود إلى قرارها، كالمتعاطي الدواء يأخذ منه بقدر، والمستعمل النار يقتبس منها بحذر.
فجاء هذا المفتون، فصار يستدل بهذه الأحوال الاستثنائية، ذات الأعذار المحدودة بحد، على ما لا حد له ولا قدر!! لم يقدرها كالدواء والنار، بل كالهواء والماء، فأغرب في القياس، وجنح عن جادة الصواب، فكان كالفراش والهوام تقع على النار تحسبه ضياء، وكالأعمى يشرب الحمة يحسبها دواء، فكم من أناس ضلوا في المتشابهات والشبهات!!
ومما وقعوا فيه من المتشابهات: أن صاروا يستدلون على خصومهم باختلاط المرأة في العهد النبوي بالرجال في الأسواق، والطرقات، والطواف! فهذا منهم علامة على ضعف علمهم بمورد الاختلاط، ومحل النزاع، أو أنهم من الذين يضلون عند متشابهه، وإلا فالخلط الذي هو ممنوع ليس هذا الذي يذكرونه؟ إنما هو إنشاء مجامع علمية، أو عملية تكون محاضن لزرع الصداقة والزمالة بين الجنسين، ليعملا سوياً، ويتعلما سوياً، ليس المرور العارض، والكلام العارض؛ فذلك النوع من الاختلاط هو المحرم، ويا بلية من يدعي أن الشريعة تبيح ذلك.
– فأين هو إذن من فعله عليه السلام: ألم يفرق بينهما في الصلاة، فجعل للنساء مؤخرة المسجد، وللرجال مقدمة، وقال: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وشر صفوف النساء أولها، وخيرها آخر»؟!
– وأين هو من فصله عليه الصلاة والسلام بينهما في التعليم، بجعله يوماً خاصاً للنساء للتعليم؟!
– وأين هو من قوله وامرأة تمشي وسط الطريق: «ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بالحافات»؟!
– وأين هو من قوله: «ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء»؟!
وإذا كان هذا الخلط مباحاً: فلم لم يحرض الصحابة التجار على توظيف البنات في الأسواق؟!
وأين.. وأين؟!
إذا كان لديهم جواباً صريحاً على هذا الفصل النبوي بين الجنسين، وإلا فإنهم مخطئون، ومنهم مضلون.
وليس لنا بعد هذا إلا أن نقول: قد تبين الرشد من الغي.