ليلة النصف من شعبان وما أُحدِثَ فيها من بدع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، شرع لعباده كل سبيل يوصلهم إلى مرضاته، والصلاة والسلام على نبي الهدى محمد الذي دل أمته على اتباع سنته وهديه، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد:
فلا شك ولا ريب أنه لا شيء أفسد للدين وأكثر تقويضاً لبنيانه من البدع والضلالات والخرافات والأهواء؛ ولهذا جاءت النصوص الكثيرة والصحيحة بالتحذير منها ومن عواقبها الوخيمة. والمتأمل لحال الأمة في العصور المتأخرة يجد فشو الجهل والأمية الدينية، وبروز أنصاف العلماء؛ إضافة إلى انتشار وسائل الاتصال المختلفة التي قرَّبت بين الناس، ومكنت لأهل البدع من نشر بدعتهم، وهو ما أدى إلى انتشار البدع ورواج تجارتها وانتشار سوقها في أوساط المسلمين، وبخاصة بدع العبادات، مما يبعث في النفس حسرة وأسى على ما حل بالمسلمين لا سيما عندما نرى صاحب البدعة يروج لها عاضاً عليها بالنواجذ، معتقداً أنها السنة التي يجب اتباعها.
ولخطورة البدع على الدين وأهله جاءت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف في ذمها والتحذير منها، من ذلك: ما جاء عن عائشة مرفوعاً: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ»(1). ولمسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(2).
وعن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في خُطبه: «أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ»(3). وللنسائي: «وَكُلُّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ»(4).
وعن عبد الله بن مسعود قال: «خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَطًّا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ مُسْتَقِيمًا، قَالَ: ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ السُّبُلُ، وَلَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلاَّ عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ? [الأنعام:153]»(5).
وعن سمرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا حدثتكم حديثًا فلا تزيدن علي»(6).
وفيه دلالة على نهيه عن الزيادة في الدين.
وجاء عن عبد الله بن مسعود قوله: “اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، كل بدعة ضلالة”(7).
ومن أقوال السلف كذلك في هذا المعنى ما جاء عن الإمام مالك -رحمه الله تعالى- قال: “مَن ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة؛ لأن الله يقول: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا? [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم ديناً”(8).
وقال الإمام الشافعي -رحمه الله-: “مَن استحسن فقد شرَّع”(9).
وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: “أصول السنة عندنا: التمسُّك بما كان عليه أصحاب رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة ضلالة”(10).
ومن البدع المحدثة والتي هي مرتكز حديثنا ما يحدث في ليلة النصف من شعبان من بدع وضلالات، من احتفاء واحتفال واجتماع في المساجد لتلاوة بعض سور القرآن، وسرد أدعية مخترعة، وصلوات متعددة، وصنع أطعمة مخصوصة بقصدٍ تعبدي.. إلى غير ذلك؛ اعتقاداً ممن يفعل ذلك بأن هذه الليلة لها فضل كبير وعظيم، وكل ذلك مما لم تأت به الشريعة، ولم يأذن به الله تعالى، فلم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه أنهم خصوا هذه الليلة بصلاة أو ذكر أو دعاء مخصوص، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
والاعتقاد الصحيح في هذه الليلة أنها كغيرها من الليالي، فلم يصح في فضلها عن غيرها شيء يعتد به، وما ذهب إليه بعضهم من أنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم خطأ مخالف لنصوص القرآن العظيم؛ إذ الليلة المقصودة بالآية هي ليلة القدر: ?إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ? [القدر:1].
قال تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى: “فأما إنشاء صلاة بعدد مقدر، وقراءة مقدرة، في وقت معين؛ تصلى جماعة راتبة كهذه الصلوات المسئول عنها، كصلاة الرغائب في أول جمعة من رجب، والألفية في أول رجب، ونصف شعبان، وليلة سبع وعشرين من شهر رجب.. وأمثال ذلك؛ فهذا غير مشروع باتفاق أئمة الإسلام، كما نص على ذلك العلماء المعتبرون، ولا ينشئ مثل هذا إلا جاهل مبتدع، وفتح مثل هذا الباب يوجب تغيير شرائع الإسلام، وأخذ نصيب من حال الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، والله أعلم”(11).
وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- مبيناً حكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان: “إنَّ الاحتفال بليلةِ النِّصْف من شعبانَ بالصلاة.. أو غيرها، وتخصيص يومِها بالصيام بدعةٌ منكرة عندَ أكثر أهل العِلم، وليس له أصلٌ في الشَّرْع المطهَّر(12)“.
وقال -رحمه الله-: “من البدع التي أحْدَثها بعضُ الناس: بدعةُ الاحتفال بليلة النِّصف من شعبان، وتخصيص يومِها بالصيام، وليس على ذلك دليلٌ يجوز الاعتماد عليه، وقد ورد في فضلها أحاديثُ ضعيفةٌ لا يجوز الاعتماد عليها، أمَّا ما ورد في فضْل الصلاة فيها، فكلُّه موضوع”(13) ا.هـ.
وخلاصة القول: يجب على كل مسلم يؤمن بالله ربًا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً أن يعتقد اعتقادا جازماً بأن دين الإسلام قد أكمل الله بناءه، والواجب على العبد هو التطبيق والتنفيذ، وأن يتبع ولا يبتدع؛ فقد كُفي بالسنة ولا حاجة لغيرها، فعمل قليل على السُّنة خير من عمل كثير على البدعة، والله سبحانه وتعالى إنما يتقبل من المتقين، وصاحب البدعة بعيد من التقى قريب إلى العمى؛ لأنه يعبد الله بغير شرعه، وبالمقابل يحذر المسلم من مجالسة صاحب البدعة ومناصرته؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قد لعنه ومن آواه، فقال: «لعن الله من آوى محدثا»، أي: ضمه وحماه؛ بل مجرد الجلوس معه، فقد جاء في الأثر: “من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة ليوقره فقد مشى إلى هدم الإسلام(14)“.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعصمنا جميعًا من البدع، ويوفقنا إلى كل خير، وأن يعيننا على التمسك بكتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.
_________________________________
(1) متفق عليه.
(2) مسلم (3/ 1343) برقم (1718).
(3) مسلم (2/ 592) برقم: (867).
(4) النسائي (3/ 188)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 287).
(5) مسند أحمد (7/ 436).
(6) أخرجه الألباني في “السلسلة الصحيحة”، (1/ 680) رقم: (346).
(7) أخرجه الطبراني في المعجم (9/ 154).
(8) الاعتصام للشاطبي (1/ 49).
(9) هذا القول مشهور ومستفيض عن الشافعي -رحمه الله- بهذا اللفظ، وقد ذكره الألباني وجزم بنسبته إلى الإمام الشافعي، السلسلة الضعيفة (2/ 19).
(10) طبقات الحنابلة (1/ 241).
(11) الفتاوى الكبرى (2/ 239).
(12) التحذير من البدع (ص:15).
(13) مجموع الفتاوى (1/ 186).
(14) الأدب المفرد للبخاري (1/ 20).